2- الدلائل العقلية والتاريخية على نفي زيارات المراقد في الإسلام

لقد بدأنا بالدلائل النقلية على عدم استحباب زيارات الأضرحة لأن المعتقدين بالزيارة يستندون إلى الأدلة النقلية، وإلا فإن الأدلة العقلية أيضاً تدل على ما نقول إذ لا يوجد عاقل يعتبر صرف الوقت في شد الرحال والسفر إلى القبور أمراً ممدوحاً، وفي ما يلي نذكر عدداً من الأدلة العقلية على أن التردد إلى زيارات الأضرحة ليس عبادةً مأموراً بها من قبل الشارع: 

1- لم يأتِ في جميع آيات القرآن أدنى ذكر لأهمية زيارة القبور، والآية الوحيدة التي جاء فيها ذكرٌ لزيارة المقابر هي قوله تعالى: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) (التكاثر/1 - 2)، وهي آيةٌ قد يُسْتَنْبَطُ منها كراهةُ أو منعُ زيارة المقابر لا استحبابها، لأن سياقها يدل على مذمّة هذا الأمر.

2- لا يوجد في الأديان الإلهية السابقة على الإسلام أي تعاليم تحثُّ على التردُّد إلى القبور وزيارتها، هذا ونحن نعلم أن دين الإسلام جاء يؤكّد ما شرعه الله للأنبياء السابقين مثل نوح وإبراهيم الخليل عليهما السلام: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ...)) (النساء/163)، وكذلك: ((شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى...)) (الشورى/13)، و((مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ)) (فُصِّلَتْ/43).

فمفاد هذه الآيات أنَّ ما شَرَعَهُ اللهُ في دين الإسلام لِنَبِيِّ آخر الزمان هو نفس ما شَرَعَهُ اللهُ للأنبياء السابقين. وبالتالي فمن البديهي أن الله لم يشرع لنبيه الخاتم ما لم يكن مشروعاً في الرسالات والأديان الإلهية السابقة. ولو شرع ذلك للأنبياء السابقين لشرعه في الإسلام.

3- رغم مجيء/120000/ (مئة وعشرين ألفَ) نبيٍّ إلى العالم - حسب الرواية المشهورة( ) - بل في القرآن الكريم ما يفيد أن عدد الأنبياء كثير لا يحصيه إلا الله، كما في قوله تعالى: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ...)) (سورة إبراهيم/9)، ومثله قوله تعالى: ((وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) (سورة النساء/164)، رغم ذلك لا نشاهد أي ضريح أو مزار لهؤلاء الأنبياء، على كثرتهم. أما بعض القبور الموجودة والمنسوبة لبعض الأنبياء، فلا أحد يعرف على وجه اليقين حقيقة أمرها، كما جاء في طبقات ابن سعد (طبع بيروت، ص53) عن إسحق بن عبد الله أبي فروة قوله: «ما يعلم قبر نبي من الأنبياء إلا ثلاثة: 

(1) قبر إسماعيل، فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت.

(2) وقبر هود، فإنه في حَقْفٍ من الرمل تحت جبلٍٍ من جبال اليمن عليه شجرة تندى، وموضعه أشد الأرض حراً.

(3) وقبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن هذه قبورهم بحق». 

هذا مع أنه لو كان أمر الزيارة مستحباً إلى هذا الحد في نظر الشارع ومطلوباً في شريعته، لكانت زيارة نبي الله داوود عليه السلام مثلاً، أهم بكثير من زيارة «إمامزاده داوود»( )، ولَكَانَ قبرُ حضرة النبي إلياس عليه السلام أكثرَ أهميةً من قبور أولاد الأئمة وأحفادهم. 

4 - إن كتب التواريخ والسير تشهد جميعُها أنه لم يحصل لأيِّ واحدٍ من كل ذلك العدد من المؤمنين الصالحين والمجاهدين الأبرار الذين ارتحلوا أو استشهدوا في عهد النبوَّة أو في صدر الإسلام أن بُني لهم مزار مجلَّل أو ضريحٌ مُعَظَّم، رغم أن بعضهم كان من الأعلام والصالحين ومن أقرب الناس إلى نبيِّ الله صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ مثل عمه حمزة سيد الشهداء رضي الله عنه أو ابنه إبراهيم عليه رحمة الله.

5 - تدلُّ أعمال الدفن في صدر الإسلام بحدِّ ذاتها على أنه لم يكن هناك فرقٌ في هذا الأمر بين الأموات مهما كان شأنهم رفيعاً أو كانوا من عظماء الإسلام وأئمّته فالكل كان يُدْفَن بنفس الطريقة ولم يكن هناك لأحد أضرحةٌ ومزاراتٌ. 

6 - لقد قام عليٌّ عليه السلام بدفن زوجته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين بكيفية جعلت قبرها غير معلوم لأحد حتى هذا اليوم، بل أوصى مولى المؤمنين عليه السلام أصحابه بعد وفاته بدفن جثمانه بنحوٍ يتم فيه إخفاء قبره عن أنظار الناس، وفي هذا أكبرُ عبرة لأولي الأبصار وتذكرة لأولي الألباب، بل هو تدبيرٌ تحار في عظمته عقول المؤمنين وتدهش لبصيرة عليٍّ النافذة ورؤيته الربانية البعيدة التي جعلته يأمر بذلك وكأنه كان يرى من وراء أستار القرون ما سيفعله عُبّاد القبور بعد ألف عام؟؟ ولا عجبَ فهو عليٌّ إمام التوحيد، وهو عليٌّ الذي أمره الرسول الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ بهدم كلِّ قبر مُشْرِف من قبور الناس التي كانت مزاراً في ذلك الزمن بل كانت معبد أصنامِ عُبّاد الأموات، كما أمره بهدم كل وثن أو تمثال كان الناس لا يزالون يعبدونه وربما كان في مقابرهم( ).

أجل، لم يكن في نظر عليٍّ - إبراهيم زمانه المحطم للأصنام - أيُّ فرق بين أن يعتلي كتف النبي (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في فتح مكة لكي يُخْرِجَ الأصنام من بيت الله ويطرحها أرضاً فيجعلها حطاماً، وبين أن يذهب إلى القبور ويحطِّم القبور المشرفة فيسوي بها الأرض، فكلا الأمرين أمرُ رسول الله ورضا رب العالمين. فكيف لا يرى ذلك الشخص العظيم، ببصيرته النافذة وتفكيره البعيد، أنه من الممكن لهذه الأمة التي تخلّصت حديثاً من ظلمات الجاهلية، أن تحوِّلَ - عن قريبٍ - قبرَ ابنةِ النبيِّ الوحيدة، التي حازت مزايا ومناقب خاصة من جانب رسول الله (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كقوله: «فاطمة بضعة مني» و«فاطمة سيدة نساء العالمين»، إلى مزارٍ، أو بتعبير أصح إلى معبد أوثان جديد مثل تلك التي أُمِرَ بهدمها، فقام بدفنها في وسط الليل حتى لا يطلع أحد مكانها أحد فيتخذه مزاراً؟!

وكيف لا يوصي نبراس التوحيد ذاك عليه السلام بدفن جثمانه على نحو لا يعلم بمكان قبره أحد، وهو يرى بعين اليقين والبصيرة ما سيحدث لقبره فيما بعد، كيف لا وقد رأى في حياته أشخاصاً رفعوه إلى حد الإلهية فاعتبره بعضهم اللهَ ربَّهم وخالقَهم؟! إلى الحد الذي اضطر لأجل ثنيهم عن تلك العقيدة الفاسدة أن يهدّدهم بالقتل والحرق، بل أن ينفذ ذلك، حسب ما ذكرته بعض التواريخ، ورغم ذلك لم يرجع أولئك الأفراد عن عقيدتهم واحترقوا وماتوا عليها. أفلا يجب على مثل ذلك الإمام أن يخفي قبره وقبر ابنة رسول الله عليهما السلام عن أنظار الناس حديثي العهد بالجاهلية؟.

أما ما يدّعيه بعض العلماء من أن قبر فاطمة عليها السلام إنما تمّ إخفاؤه حتى لا يصلِّي عليه الشيخان فهو - والله أعلم - ليس سوى ظنّ خاطئ لا يقوم عليه دليل، وإلقاء للاختلاف والعداوة بين المسلمين، والدليل على ما نقول أن علياً عاش سنين طويلة بعد رحلة الشيخين، كما أن الأئمة من ذرية فاطمة - عليهم السلام - عاشوا في زمن لم يبق فيه أيُّ خوف من ذلك الأمر أصلاً، فلماذا بقيَ قبرُ فاطمة مجهولاً ولم يقم عليٌّ ولا الأئمة الكرام من أولاده بإظهاره؟! 

وكذلك ما قالوه من أن علّة أمر عليٍّ بإخفاء قبره هو خشيته من أن يقوم الخوارج بنبش قبره وحرق جثمانه، لا يعدو أيضاً ظنَّاً كاذباً تكذّبه الحقيقة والتاريخ لأن الخوارج - رغم إجرامهم - لم يؤثَر عنهم أنهم قاموا بحرق أي جثمان من أجساد مخالفيهم ولم يأت مثل هذا الخبر في أي تاريخ. 

إن الذين يشيعون بين المسلمين مثل هذه الأباطيل والأقوال الكاسدة إما جاهلون بحقيقة الدين أو عاجزون عن معرفة أولياء الله ومدى بُعْد نظرهم أو متعصبون أو مدفوعون لإثارة الاختلاف والنزاع بين المسلمين أو كل ما سبق!؟

7 - إن قضية نهيِ رسولِ اللهِ (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عن زيارة القبور كانت معروفةً ومشهورةً في صدر الإسلام إلى حدِّ أنه لما قامت أم المؤمنين عائشة زوج رسول الله بالذهاب إلى قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر بعد موته عام 55 أو 56 هجرية، لامها بعض المسلمين استناداً نهيِ رسولِ اللهِ النساءَ عن زيارات القبور؟!. فاعتذرت قائلةً إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمح بذلك أخيراً بعد أن كان قد نهى عنه.

8 - كما أن موضوع نهي رسول الله عن زيارة القبور كان لا يزال مشهوراً كل الشهرة وحاضراً في النفوس بكل قوة بحيث أنه - كما ذكرنا - كان الشعبيُّ (أبو عامر شراحيل) المتوفى سنة 104 والذي لقي أكثر من 150 صحابيّاً من أصحاب رسول الله وروى عنهم الحديث، يقول مراراً: «لولا أنَّ رسولَ الله نهى عن زيارة القبور لَزُرْتُ قبرَ النبيِّ (أو قبر ابنتي»( ).

9 - إن أفضل دليل عقلي ونقلي على ما نقول هو أنه حتى أكثر من قرنٍ كاملٍ بعد وفاة النبيِّ (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ) لم يتحوَّل قبره المطهَّر إلى مزارٍ يتردَّد إليه أيٌّ من الصحابة الكرام أو التابعين الكبار! فمن المسلَّم أنَّ الجثمان المطهَّر للنبي (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) إنما دفن في نفس البيت الذي كان يسكنه والذي كان منزل عائشة، وطبقاً للتواريخ الموثَّقة بقيت عائشةُ قاطنةً في ذلك المنزل ولم تتركه، كما يروي ذلك ابن سعد في الطبقات الكبرى (ج2/ص 307)، كما يشير عموم المؤرخين إلى أن عائشة كانت تعيش فوق قبر النبي (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وتنام هنالك وحتى إلى ما قبل زمان دفن عمر لم تكن تحتجب في منزلها ولكنها بعد دفن عمر وضعت الخمار على رأسها - بل ربما الجلباب على بدنها - ولم تنزعه حتى ضربوا جداراً على القبور( ). 

وكذلك جاء في طبقات ابن سعد (ص307): «أخبرنا مسلم بن خالد، حدثني إبراهيم بن نوفل بن سعيد بن المغيرة الهاشمي عن أبيه قال: انهدم الجدار الذي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، في زمان عمر بن عبد العزيز، فأمر عمر بعمارته، قال: فإنه لجالسٌ وهو يُبْنَى إذ قال لعلي بن حسين: قُمْ يا علي فَقُمَّ البيت( )، يعني بيتَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه القاسم بن محمد فقال: وأنا أصلحك الله! قال: نعم وأنت فَقُمَّ، ثم قال له سالم بن عبد الله: وأنا أصلحك الله! قال: اجلسوا جميعاً وقُمَّ يا مزاحم فَقُمَّهُ، فقام مزاحم فَقَمَّهُ، قال مسلم: وقد أثبت لي بالمدينة أن البيت الذي فيه قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بيت عائشة وأن بابه وباب حجرته تجاه الشام وأن البيت كما هو سقفه على حاله وأن في البيت جرَّةً وخَلْقَ رِحَالِهِ( ).». 

ومن البديهي أنه لو كان القبر الشريف مزاراً يختلف إليه الناس لما تجمع عليه كل ذلك الغبار والتراب أو الكُناسَة التي احتاجت من عمر بن عبد العزيز أن يأمر الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام أولاًَ بكنسها، فيرجوه القاسم بن محمد بن أبي بكر أن يسمح له بالمشاركه في ذلك الفضل، وكذلك يفعل سالم بن عبد الله، فيحول عمر بن عبد العزيز تلك المهمة منهم إلى «مزاحم».. الخ ما جاء في الرواية.

وأيضاً من الواضح أن البيت والقبر الذي بقيت فيه جرّةٌ وقماشةٌ مهترئةٌ منذ زمن بعيد، وحتى قرن كامل، لم يكن أبداً مزاراً عامراً، بالإضافة إلى كون الرواية دليلاً بارزاً على أن عائشة واصلت سكناها في ذلك البيت حتى آخر عمرها! 

10 - عندما انهدم جدار البيت الذي كان فيه قبر رسول الله (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بسبب المطر، وقعت حادثةٌ أخرى هي خروج رائحةٍ كريهةٍ من الناحية الشرقية للمنزل، فجاء عمر بن عبد العزيز مع أحد أحفاد النبي (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وأمر وردان أن يكشف عن المسألة وأن يباعد الأتربة المتراكمة حول قبر عمر، فقال عبد الله حفيد عمر بن الخطاب لعمر بن عبد العزيز الذي كان خائفاً من ذلك الأمر: أيها الأمير! هذه رائحة قدمي جدك عمر بن الخطاب!! وجاء في خبر آخر أن الرائحة المذكورة كانت رائحة قطة ميتة، ولا شك أن الخبر الثاني هو الأصح لأنه كيف يمكن أن تظهر رائحةٌ من قدمي عُمَرَ بعد مرور سنوات على دفنه وبعد أن بليت عظامه وصارت تراباً؟! 

11 - وروي ابن سعد في طبقاته فقال: «أخبرنا سريج بن النعمان عن هشيم، أخبرني رجل من قريش من أهل المدينة يقال له محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سقط حائط قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في زمن عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ على المدينة في ولاية الوليد، وكنت أول من نهض فنظرت إلى قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإذا ليس بينه وبين حائط عائشة إلا نحو من شبر، فعرفت أنهم لم يدخلوه من قبل القبلة».

12 - بعد دفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ والشيخين في ذلك المنزل كان بعض الناس الذين تصل أيديهم إلى القبر يأخذون من تربته بقصد التبرّك، فأمرت عائشة بضرب جدار حول القبر وترك نافذة فيه ففعلوا ذلك ولكن الناس ظلُّوا يأخذون من تربة القبر من تلك النافذة فأمرت عائشة بسدِّها. 

ولدينا عشرات القرائن من هذا القبيل تدل جميعاً على أن القبر الشريف لم يكن حتى ذلك الزمن مزاراً يزوره المسلمون، ومن أراد الإطلاع أكثر على مثل هذه الشواهد فليرجع إلى كتب التاريخ لا سيما كتاب «وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى» تأليف «نور الدين علي ابن أحمد السمهودي»( ) (ص543 فما بعد).

13 - لدينا أخبار وآثار عديدة تبين أن زيارة قبر رسول الله (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كانت منهياً عنها من قبل الصحابة والأنصار وحتى أحفاد النبي الكريم، ومن جملة ذلك:

آ - جاء في كتاب «المصَنَّف» القيّم تأليف «عبد الرزاق الصنعاني» (ج3/ص577)، وفي كتاب «وفاء الوفاء» للسمهودي (ص 1360): 

«عبد الرزاق عن الثوري عن ابن عجلان عن رجل يقال له سهيل عن الحسن بن الحسن بن عليّ قال: رأى قوماً عند القبر، فنهاهم وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً وصلُّوا عليَّ حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني.». 

ب - وجاء في الكتاب ذاته: «روي عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً يجيء فرجة عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعوه، فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قال: لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم.».

ج - وفي كتاب السمهودي ذاته أيضاً ضمن بحث «الصلاة على النبي» روايةٌ «عن القاضي إسماعيل عن سهل بن أبي سهيل قال: جئت لأسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ وحسن بن حسن رضي الله تعالى عنهما يتعشى وبيته عند بيت النبي، وفي رواية:... رآني الحسن بن الحسن رضي الله تعالى عنهما عند القبر وهو في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها يتعشى قال: هلمَّ إلى العشاء فقلت: لا أريد، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟، وفي رواية: ما لي رأيتك وقفت؟ قلت: وقفتُ أسلِّم على النبي! فقال: إذا دخلت فسلم عليه! وفي رواية: إذا دخلت المسجد فسلم عليه! قال: إن رسول الله (صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قال: لا تتخذوا بيتي عيداً! ولا بيوتكم مقابر ثم قال: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء!».

أي يستوي في السلام على النبيّ أن يكون المسَلِّمُ بعيداً في الأندلس أو قريباً في الروضة الشريفة (فلا حاجة للمجيء إلى قبر النبي صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ في المدينة بشكل خاص بهدف إلقاء السلام عليه!).

د - وفي كتاب السمهودي، يروي القاضي إسماعيل أيضاً حديثاً آخر يصل سنده إلى الإمام علي بن حسين أنه قال: «إن رجلاً كان يأتي كلَّ غداةٍ فيزور قبر النبي صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ ويصلي عليه ويصنع من ذلك ما انتهره عليه عليُّ بن الحسين، فقال له علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: ما يحملك على هذا؟ قال: أحب التسليم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فقال له علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: هل لك أن أحدثك حديثاً عن أبي؟ قال: نعم!، قال له علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ: لا تجعلوا قبري عيداً».

قلتُ: إن من غرائب الأمور أن هذا الحديث «لا تتَّخذوا قَبْرِي عِيْداً»، الذي روي عن رسول الله صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ بشكل متواتر، وكل من روى ذلك الحديث، حتى أحفاد النبي الكرام مثل الحسن بن الحسن المثنى وعلي بن الحسين السجاد عليهم السلام، فهمه على معناه الواقعي الذي يعني تكرار الذهاب والإياب إلى قبره صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فنهى الناس عن التردُّدِ لزيارة قبر النبي عملاً بمفاد ذلك الحديث، ومع كل ذلك لمّا رأى ذوو التفكير الأعوج ومحبو البدع أن هذه الجملة لا تنسجم مع بدعتهم، قالوا: إن معنى عبارة «لا تجعلوا قَبْرِي عِيْداً» أي لا تجعلوا قبري كالعيد لا تزورونه في السنة إلا مرتين بل زوروه دائماً وكل يوم!!. ولعمري ما تفسيرهم لهذا الحديث إلا كتفسير الوضّاعين لحديث النبيِّ الذي يقول فيه: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» فقالوا: إن النبي قال من كذب عليّ ولم يقل من كذب لي، ونحن لا نكذب عليه بل نضع الحديث لأجله أي أن حديثنا الكاذب ليس ضد النبي بل لصالحه ولصالح دينه!!.

هـ - وقال السمهودي، رغم أنه هو نفسه من مؤيدي الزيارة، في كتابه وفاء الوفاء (ص1368): «رُوي عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أنه قال:ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَآلِهِ وَسَلَّمَ وكان يكره إتيانه!».

و - في صدر الإسلام، حتى بعد قرابة قرن من رحلة النبي صَلَّى الله عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، كان الصحابة والتابعين ينهون الناس عن التردد والذهاب والإياب لزيارة قبر النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) كما تشهد بذلك الأخبار المأثورة والروايات المذكورة، والتي من جملتها ما جاء في كتاب المصنف لعبد الرزاق الصنعاني (ج3/ص576) وسنن البيهقي: «عبد الرزاق عن الثوري عن أبي المقدام أنه سمع ابن المسيِّب، ورأى قوماً يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يوماً»( ).

ومعنى كلامه أنه بعد أربعين يوم من الوفاة والدفن في التراب، فإن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم بتصور أن روح حضرته الشريفة لا تزال في القبر أو حوله خطأ لا فائدة منه.

إن المتتبع لكتب التواريخ والمدقِّق فيها يرى أنه من المسلمات المعلومة أنه لم يكن في صدر الإسلام وفي زمن حياة صحابة رسول الله والطبقة الأولى من التابعين خبرٌ أو أثرٌ عن مسألة الزيارة بين المسلمين، ولم يتحوَّل قبرُ النبيِّ المطهر صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ أبداً إلى مزار يتردّد إليه أصحابه الأبرار! وحتى سنة 91 هجرية عندما أمر الخليفة الأمويّ الوليد ابن عبد الملك، عمرَ بن عبد العزيز بإصلاح ما تهدّم من جدار غرفة قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ما كان أحدٌ يقوم حتى ذلك الوقت بزيارة قبر النبي، كما مر معنا فيما سبق عن اثنين من أحفاد النبي الأعلام: أي الحسن المثنى وحضرة عليّ بن الحسين - عليهم السلام - أنهما كانا ينهيان الأشخاص الذين يأتون خصيصاً ويدخلون البيت لأجل زيارة النبي والسلام عليه! وكلا الإمامين الجليلين كان مجاوراً لذلك القبر الشريف وكان من أعلم الناس بتعاليم الشرّع وأفهمهم لأحكام الإسلام، لذا كان الإمامان الشريفان حريصين أكثر من أي شخص آخر على مراعاة أحكام الإسلام والعمل بما يرضي الله.

ومن جملة الأدلّة التي تؤكّد أن القبر المبارك لرسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) لم يكن أبداً حتى لمدة قرن بعد هجرة النبيّ، مورداً لتردُّد الزائرين وذهابهم وإيابهم إليه عملاً بنهيه (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) في قوله: «لا تجعلوا قبري عيداً»، ما أورده نور الدين علي بن أحمد السمهودي في كتابه «وفاء الوفاء» (ص547 و548) نقلاً عن صحيح البخاري من أنه لما عهد الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز بإصلاح ما انهدم من مقبرة النبيّ وبشراء البيوت المحيطة بالمسجد لتوسعة الروضة الشريفة، شاهد المسلمون قبل البدء بإقامة الجدار أثر قدم على التراب المحيط بالقبر الشريف فأصابهم هلع من هذا المنظر وتصوروا أن ذلك أثر قدم النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) نفسه! فتبين لهم فيما بعد أنها بقية قدم عمر( )، مما يعني أنه منذ زمن عمر وحتى ذلك اليوم لم يذهب أحدٌ إلى ذلك القبر المنوَّر! 

ز - جاء في كتاب الكافي، في كتاب الجنائز (ص201/نشر المكتبة الإسلامية) عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «كان قَبْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ مُحَصَّبٌ حَصْبَاءَ حَمْرَاءَ». وروى ابن سعد في طبقاته (ج2/ ص307) عن عمرو بن عثمان عن قاسم بن محمد (جدّ حضرة الإمام الصادق لأمِّه) أنَّه قال: «اطلعتُ على صِغَرٍ على القبور فرأيت عليها حصباء حمراء».

إن مضمون حديثي الكافي والطبقات هو أنه حتى زمن الإمام الصادق - عليه السلام - أي بعد مضي أكثر من 120 عاماً على هجرة النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)كان قبره والطبقة المغطية له والمؤلَّفة من حصى أحمر مجهولاً للناس، الأمر الذي حدا بالإمام الصادق وبجده لأمه: القاسم بن محمد بن أبي بكر، أن يخبرا عنه، وكما يقول حديث القاسم بن محمد إنه لما كان طفلاً كان يرى ذلك القبر الشريف من خلال مدّ رأسه من النافذة أو من وراء الستائر. 

ح - أثناء إصلاح جدار البيت الذي كان فيه القبر المبارك كانت هناك طاسة خشبية أو من الفخار إلى جانب القبر أو في رف الجدار تحطمت عندما انهار الجدار (طبقات ابن سعد، ج2/ص307، وكتاب وفاء الوفاء ص549).

ط - لما سقط جدار البيت، شُوهدت ثلاثة قبور لم يعرفها الخليفة الوليد بن عبد الملك إلى أن عرّفها له عمر بن عبد العزيز بأنها لرسول الله والشيخين. فلو كانت الزيارة رائجة في تلك الأيام لما كانت تلك القبور مجهولة تحتاج إلى من يسأل عنها.

ي - جاء في مصنف عبد الرزاق (ج3/ص503): «أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عبد الرحمن ابن القاسم بن محمد قال: سقط الحائط الذي على قبر النبي فستر ثم بنى، فقلت للذي ستره: ارفع ناحية الستر حتى أنظر إليه، فإذا عليه جبوب( ) وإذا عليه رمل كأنه من رمل العرصة( »). فهذا يدل على أن عبد الرحمن رغم كونه من ورثة عائشة إلا أنه لم يكن قد شاهد القبر حتى ذلك الزمان!

هذه عشرة أدلة على أن حديث لا تجعلوا قبري عيداً كان حتى قرن كامل معمولاً به بكل قوة! تلك عشرة كاملة.

14 - أهمُّ دليلٍ على أن تلك الزيارات الرائجة في زماننا لقبور الأئمة - حتى أننا أصبحنا نجد كل ذلك الكم الكبير من الروايات والأحاديث المنسوبة إليهم في فضائل زياراتهم وعظيم ثوابها - لم تكن أبداً رائجة بين مسلمي الصدر الأول وأئمة الهدى - عليهم السلام - ولا مُعتنى بها، هو أننا لا نجد في أي تاريخ موثَّق قيامَ أيٍّ من أولئك الأولياء والأئمّة العظام بزيارة قبر النبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) أو قبور الأنبياء الآخرين ولا قيام الصحابة والتابعين بالسفر وشد الرحال لأجل زيارة قبر واحد من الأئمة، ولا يمكن أن نصدّق أن الإمام الذي يأمر الناس بعبادةٍ يمتنع هو عن أدائها!! لأنه عندئذٍ سيشمله قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)) الصف/2 - 3. 

فمثلاً رووا في أحاديث الزيارة الرواية التالية: «عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ قَالَ قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام قال: أَبْلِغْ شِيعَتِي أَنَّ زِيَارَتِي تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أَلْفَ حَجَّةٍ! قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَلْفَ حَجَّةٍ؟؟ قَالَ: إِي وَاللهِ وَأَلْفَ أَلْفِ حَجَّةٍ لِمَنْ زَارَهُ عَارِفاً بِحَقِّهِ!»( ).

أفلا يحق لنا أن نتساءل: لو كان هذا الحديث صحيحاً وكان ثواب زيارة الإمام الرضا عليه السلام يعدل ثواب ألف حجّة، فضلاً عن أن يعدل ثواب ألف ألف حجّة، هذا مع العلم أن ثواب الحج المستحب - طبقاً لأحاديث الإمام ذاته - أفضل من الصلاة والصوم بل أفضل من عتق عبدٍ، بل طبقاً لروايةٍ أخرى عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لَقِيَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي خَرَجْتُ أُرِيدُ الْحَجَّ فَفَاتَنِي، وَأَنَا رَجُلٌ مُمِيلٌ (أي غَنِيٌّ) فَمُرْنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي مَا أَبْلُغُ بِهِ مِثْلَ أَجْرِ الْحَاجِّ؟ قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ لَهُ: انْظُرْ إِلَى أَبِي قُبَيْسٍ فَلَوْ أَنَّ أَبَا قُبَيْسٍ لَكَ ذَهَبَةً حَمْرَاءَ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا بَلَغْتَ بِهِ مَا يَبْلُغُ الْحَاجُّ! ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْحَاجَّ إِذَا أَخَذَ فِي جَهَازِهِ لَمْ يَرْفَعْ شَيْئاً ولَمْ يَضَعْهُ إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ ومَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ ورَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ فَإِذَا رَكِبَ بَعِيرَهُ لَمْ يَرْفَعْ خُفّاً ولَمْ يَضَعْهُ إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ فَإِذَا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ... الخ الحديث»( ).

فإذا كان ثواب حج بيت الله كذلك وكان الإمام أبو جعفر محمد التقيّ( ) عليه السلام الذي عاش في بلاط المأمون 18 عاماً، كصهر محترم له، كما قام المأمون بدفن أبيه حضرة الإمام الرضا عليه السلام في خراسان في القبة الهارونية، ولم يكن هناك أي مانع أن يزور الإمام محمد التقي قبر أبيه الإمام الرضا المجاور لقبر والد المأمون أي هارون الرشيد، وليس ذلك فحسب بل كان من شأن هذه الزيارة أن تدخل السرور على الخليفة! فلماذا إذن امتنع الإمام محمد التقي عن تحصيل مثل ذلك الثواب العظيم؟! وكيف نبرِّرُ تضييعَه على نفسه ثواب مليون حِجَّة حسب قوله، أو على الأقل ثواب ألف حجة كما جاء في كتاب والده الإمام الرضا عليه السلام نفسه؟! مع أن الحجة الواحدة حسب الحديث الذ أرودناه لها كل تلك الأجر، هذا إضافةً إلى أن مثل تلك الزيارة لو تمَّت فسيكون لها عدّة فوائد أخرى هامَّة جداً هي التالية:

أ - لما كان الإمام الرضا والد الإمام محمد التقي - عليهما السلام - فإن زيارة الأخير له سيكون لها أجر برّ الوالدين إضافة إلى نيل كل ذلك الأجر المخصَّص لكل من يزور الإمام الرضا عليه السلام؟.

ب - سيصبح مثل ذلك العمل - لو تمّ - حجَّةً وسنداً لمن يرى أن السفر لزيارات القبور والمراقد أمرٌ مشروعٌ ومستحبٌّ.

ج - ستكون زيارته سبباً يدعو الآخرين وعامة المؤمنين للقيام بهذا العمل بكل اطمئنان ويقين، فينالوا كلَّ ذلك الأجر العظيم.

ومع كل ذلك، لم يقم الإمام محمد التقي بمثل تلك الزيارة، فإن قيل: لم يفعل ذلك لما فيها من مشقّة السفر إذْ إنه توجد بين بغداد التي كان الإمام محمد التقي مقيماً فيها وخراسان موضع قبر والده الرضا، مسافةٌ كبيرةٌ وسفرٌ شاقٌّ، قلنا: إن هذا السفر لم يكن صعباً عل الإمام محمد التقي عليه السلام وذلك بفضل وسائل الرفاهية والراحة التي كان المأمون قد وضعها تحت تصرفه. 

والواقع أن الإمام محمد التقي (الجواد) لم يزُرْ والده الرضا وليس هذا فحسب بل لم يقم حتى بزيارة جده الكريم موسى بن جعفر الذي كان قريباً منه في مقابر قريش قرب بغداد (والتي تحولت إلى منطقة الكاظمية اليوم)، هذا رغم ما رووا عن أبيه الإمام الرضا في كتب الحديث من أحاديث عديدة تبين عظيم الأجر والثواب لمثل هذه الزيارة بالإضافة إلى أن فيها براً للوالدين وفيها ردّاً وإنكاراً على الواقفيّة الذين كانوا يتصورون أن الإمام الكاظم لا يزال حياً وأنه قائم آل محمد وأنه آخر أئمة آل البيت، فزيارة قبر جده الكاظم كان من شأنها أن تقلِّلَ من عدد أولئك الواقفيّة، فضلاً عن أن مثل تلك الزيارة تؤدي إلى تصديق الروايات التي وردت أو نُقِلَتْ عن أبيه الإمام الرضا في ثواب زيارة جدِّه! 

إذا لاحظنا تلك الروايات ولاحظنا وسائل التيسير والرفاهية التي كانت ميسَّرة للإمام محمد الجواد فيمكننا أن نعتبره - والعياذ بالله - مقصراً في دينه من عدة جهات! لأنه علاوة على عدم زيارته قبر أبيه وجده عليهما السلام امتنع أيضاً عن زيارة ذلك الشخص الذي له حق كبير ليس على الإمام الجواد فقط بل على كل مسلمي العالم ألا وهو مولى الموحدين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان قبره - حسب المشهور - في النجف أي قرب بغداد التي كانت مقراً وسكناً لصهر الخليفة الإمام محمد التقي (الجواد) آنذاك.

هذا مع أن زيارة حضرة أمير المؤمنين كانت واجبة على الإمام محمد التقي (الجواد) من عدة جهات: 

أ - وردت أحاديث كثيرة عن الأئمة عليهم السلام تبين الثواب الذي لا حصر له لزائري أمير المؤمنين بل فيها تهديدات مخيفة! لمن لا يقوم بتلك الزيارة، كتلك الرواية المروية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «مَنْ تَرَكَ زِيَارَةَ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عليه السلام لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ! أَلَا تَزُورُونَ مَنْ تَزُورُهُ الْملَائِكَةُ؟!»( )، وهذا تهديدٌ ليس من السهل - لو صحّت الرواية - عدم الاعتناء به.

ب - في زيارة أمير المؤمنين ثواب بر الوالدين إضافة إلى ثواب الزيارة لأنه أبو الأئمّة.

ج - لو عمل الإمام بذلك الأمر لخفَّف من الكراهة المشهورة لزيارات القبور، وعلى العكس من ذلك يشكلِّ امتناعُه عن الزيارة وامتناعُ الأئمّة من قبله ومن بعده دليلاً كبيراً على صحّة مذهب القائلين بعدم أهميّة ولا استحباب الزيارة!.

د - إن زيارةَ الإمام الجواد قبرَ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في النجف ستكون تصديقاً لصحة مكان المزار الذي اختاره هارون الرشيد اعتماداً على الحَدْسِ والظنِّ واستناداً إلى قول أحد الفلاحين حول موضع قبر مولى المتقين عليه السلام، فبنى عليه قبر عليّ الذي لم يوافق أكثر المؤرخين على صحة مكانه!!

وعليه فلو أن الإمام الجواد قام بزيارة ذلك المزار العلوي لكان المأمون أول من يُسَرُّ بذلك ويمتنُّ له، لأن أبا المأمون - أي هارون - هو الذي وضع أساس ضريح النجف، هذا إضافة إلى أن ذلك سيكون دليلاً على صحة روايات فضائل الزيارة.

إذن، عندما نجد أن حضرة الإمام الجواد عليه السلام الذي كان يمتلك - أكثر بكثير من الأئمة قبله - إمكانية القيام بعمل كثير الثواب مثل زيارة قبور آبائه الكرام، والتي لها من الأجر - طبقاً للروايات المنسوبة إليه - ما يفوق ما رُوِيَ من ثواب الزيارة عن جميع الأئمّة، مثل ما نُسِبَ إليه من أن زيارة واحدة لحضرة الرضا عليه السلام - التي تعادل ألف حجّة في فيما نَقِل عن الإمام الرضا نفسه - تعادل فيما روي عن الإمام الجواد ألف ألف حجّة!( )، ورغم ذلك لم يبادر هو إلى ذلك الأمر، فهذا يضع علامات استفهام كبيرة على كل تلك الروايات، بل إننا على يقين أن تلك الروايات إنما نُسِبَتْ إليه كَذِباً ولم ينطق بمثلها قط!. ومثلها كل الروايات التي نُسِبَتْ سواء إلى الإمام الجواد أو إلى سائر الأئمة - سلام الله عليهم - حول الثواب الجزيل والأجر العميم للزيارات، فهي موضوعة على ألسنتهم ولا صحة لها، كيف لا ولو صحَّت تلك الروايات فإن الأئمّة سيشملهم عندئذ - والعياذ بالله - قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟)) (الصف/2)، ونحن لا يمكننا أبداً أن نعتقد بمثل هذا في حق أولئك الأئمة الكرام والهداة العظام سلامُ الله عليهم أجمعين. 

والحاصل أن ثمَّةَ حقيقةً هامَّةً ذات دلالاتٍ كبيرةٍ تسترعي انتباه كلِّ مُنْصفٍ هي أنه لو تتبعنا كل التواريخ الموثَّقة لا يمكننا أن نجد أيَّ خبرٍ يَذْكُرُ سفر أيِّ إمام لزيارة مرقد أي إمام آخر من الأئمة عليهم السلام! أما ما رُويَ من زيارة الإمام الصادق عليه السلام لقبر أمير المؤمنين عليه السلام فسنبين في الصفحات التالية من هذا الكتاب ضعف تلك الرواية ووَهَنِهَا.