1- تـمـهـيـد

 

في كتابنا «طريق النجاة من شر الغلاة» أوردنا خمسة أبحاث أحدها حول موضوع الزيارة، وذلك لأن غلاة هذا العصر يستندون في مزاعمهم وأقاويلهم حول الولاية التكوينيَّة وتصرّفات المعصومين الأربعة عشر( ) في ملكوت السماء والأرض إلى بعض الفقرات الواردة في الزيارات، مثل فقرة: «السلام عليك يا عين الله الناظرة! ويده الباسطة!» وأمثالها...

لذا وجدنا لزاماً علينا أن نبحث في أصل مسألة «الزيارة» ومشروعيتها بحثاً علمياً محقَّقاً: فنقول وبالله التوفيق، إنه مما لا شك فيه أن التردد والسفر لزيارات الأضرحة والمشاهد - بالصورة والمراسم التي تتم فيها اليوم - لا أساس لها في دين الإسلام المقدس، وهي قطعاً ليست من أحكام «ما أُنْزِلَ به الكتابُ وأُرْسِلَ به الرسولُ»، ولم يأتِ أيُّ نبيٍّ في شريعته بأحكامٍ حول زيارات المزارات والمشاهد، كما أنه لم يشرع في أي دين من الأديان الإلهية الحقَّة عبادةٌ باسم زيارات العتبات. والشاهد على هذا، الكتبُ السماويةُ الموجودةُ وعدمُ وجود مزارات للأنبياء الإلهيين الذين لا يُعَدُّونَ ولا يُحْصَوْنَ ولا لذراريهم. كما أنه لم تأت في كتاب الله المجيد وقرآنه الحميد أيُّ آيةٍ أو إشارة إلى تلك الأعمال، وكل ما يوجد في هذا الصدد إشارة قد يستفاد منها، صراحةً أو كنايةً، ذمُّ التردُّد لزيارات القبور وهي قوله تعالى: ((ألهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)) التكاثر( ). فإذا كانت زيارة مراقد الأولياء تتم أحياناً ابتغاء رضوان الله وبما يرضي الله، فإن أكثر ما تتم لأجله زيارات المراقد والأضرحة اليوم أمورٌ شركيَّةٌ نهى عنها الشارع وأعمالٌ ذمَّها الله سبحانه وتعالى توجبُ الحسرةَ والندامةَ يوم الحشر، ومن هنا نفهم لماذا كان التردّد إلى زيارات القبور مذموماً ومكروهاً شرعاً في بداية بعثة خاتم النبيين - صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ -.

و مما يدل بوضوح على ما قلناه: الجملةُ المتواترةُ: «قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ»، فإذا استندَ مدَّعٍٍ إلى ما جاء في تتمة الحديث من قوله صلوات الله عليه وآله، بعد نهيه: «فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ»( )، قلنا: 

من البديهي أن زيارة القبور التي تُذَكِّرُ الإنسانَ بالآخرةِ والموتِ مشروعة وممدوحة ولكنها لا علاقةَ لها من قريبٍ ولا من بعيدٍ بتلك الزيارات وشد الرحال إلى الأضرحة الفخمة المزخرفة المزينة بجميع أنواع زينات الدنيا من القبور المرتفعة الملبسة بأقشمة الحرير المذهَّبة، المسيَّجة بالفضَّة المعطَّرة، إلى القباب ورؤوس المآذن المطلية بالذهب، إلى الكريستال الفاخر والسجاد الثمين والشمعدانات الجميلة والثريات المتدلية الفخمة، بل مثل هذه الزيارات تذكّر الإنسان بالدنيا، إذْ فيها دافعٌ قويٌّ للانجذاب نحو حطام الدنيا وزينتها، وشدٌّ للنفس نحو متاعها، إضافة إلى ذلك فإن أمر الشارع في هذه المسألة - أي قوله فزوروها فإنها تذكركم الآخرة - ليس منحصراً بزيارة قبور المؤمنين بل يتساوى فيه زيارة قبور المؤمنين والكفار لأن كلا الزيارتين تذكِّران الإنسان بالموت والآخرة وتدعوه إلى العبرة من أحوال الغابرين، بشرط أن يكون القبر قبراً عادياً وليس بناءً شامخاً عظيماً ومزخرفاً.

ومن جملة ما يدل على نَهْيِ النبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) عن زيارات القبور في صدر الإسلام، الحديثُ المشهورُ عن ابن عباس أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ: «لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالمتَّخِذِيْنَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ»( ).

وإذا تمسك المخالفون بالمفهوم المخالف للآية الكريمة ((وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ...)) (سورة التوبة/84). مستدلين بأن الله تعالى نهى فيها نبيَّه (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) أن يقوم على قبر المنافق مما يدُلُّ بمفهوم المخالفة على جواز قيامه على قبر المؤمن! 

قلنا: إذا كان هذا المعترض منصفاً وطالباً للحق وليس كالغريق الذي يتشبث بالقشَّة، فإنه يستطيع بتأمل بسيط للآية أن يدرك أن المراد من القيام على القبر فيها، العمل الذي يتم بعد أداء صلاة الجنازة على الميت أي: دفنه ومواراته التراب، ولا علاقة له بالزيارة، كما جاء في اللغة «قام على الأمر»: أقدم عليه.

وبغض النظر عن عدم وجود تشجيع أو تشريع للتردد على الأضرحة وزيارات قبور الصالحين في أي دينٍ أو شريعة إلهية حقة( )، وعدم وجود مثل هذا الحكم في الكتاب والسنة؛ فإن تاريخ مسلمي صدر الإسلام والسيرة النبوية العطرة ليس فيهما أي خبر عن مثل هذا العمل إلى حد أنه بعد أكثر من ثلاثين أو أربعين سنة من رحلة النبي الأكرم، لمّا ذَهَبَتْ عائشةُ زوجُ النبيِّ إلى زيارة قبر أخيها «عبد الرحمن ابن أبي بكر» - في عهد خلافة معاوية - لامها بعض التابعين وذكَّرَها بِنَهْيِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) عن زيارة القبور، فأخبرته أنه سمح بها بعد ذلك( )!.

فمثل هذا العمل لم يكن رائجاً في الصدر الأول، ولذلك كان «الشعبي» (أبو عمرو عامر بن شراحيل الكوفي المتوفى 104 هـ ق) - الذي يُعتَبر من علماء الإسلام الكبار، وقد لَقِيَ أكثر من مئة وخمسين صحابياً، وأخذ عنهم الحديث -، يقول - كما ينقل عنه ابن بطّال -: «لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر النبيّ [و في رواية: لَزُرْتُ قبرَ ابْنَتِي]»( ).

أي أنه حتى بعد مرور مئة عام على الهجرة لم يكن هناك زيارات جماعيَّة للمراقد بالصورة التي نشأت فيما بعد. ولا ندري متى شاعت هذه البدعة بين المسلمين ومتى راجت كل هذا الرواج بين الشيعة؟ وأما ما قيل من أن أول من زار الإمامَ أبا عبد الله الحسين عليه السلام في كربلاء، كان الصحابي الجليل «جابر ابن عبد الله الأنصاري»، فلا يمكننا أن نصدق مثل هذه الروايات ونستند إليها، وذلك لكثرة الرواة الكذبة والغلاة الذين لا حصر لهم بين رواة تلك الزيارات، وعلى فرض صحة تلك الرواية فليس فيها مطلقاً ما يدل على أنَّ جابرَ إنما زار ذلك القبر متوسلاً متمسِّحاً وبوصفه يؤدي طقساً معيناً..، لاسيما أنه لم يكن لمرقد الإمام الهمام عليه السلام في ذلك الزمن بناءٌ ولا قبَّةٌ ولا ضريحٌ... ولم يقم ذلك الصحابي الجليل بالأعمال التي يقوم بها الزائرون اليوم في حرم ومرقد ذلك الإمام مثل الطواف وطلب الحوائج والاستشفاع...، بل أكثر ما يمكن قوله هو أن جابر زار قبر سيد الشهداء عليه السلام ليدعو الله تعالى الحيّ القيوم له بالرحمة والغفران. وأياً كان الأمر فلا يمكن اعتبار هذه الواقعة دليلاً محكماً وشاهداً معتبراً على شدّ الرحال لزيارات المراقد.

وفي ما يلي سنذكر بعض الأخبار والآثار، الواردة في الكتب الموثَّقة والمعتبرة، التي تؤيد هذا المعنى وتثبت مُدَّعانا في أن الرحيل إلى «زيارات الأضرحة» لم يكن في أي وقتٍ - في نظر شارع الإسلام - عملاً ممدوحاً ولم يجعله أمراً مهمِاً ولم يعتبِرْهُ من العبادات والحقائق الشرعية بل كان - بدلالة الروايات الآتية - منهياً عنه من قِبَلِ الرسول المختار (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وكان ينكره أصحابه الأجلاء في صدر الإسلام، وعلى أقل تقدير لم يكن عبادةً مأموراً بها: 

1 - روى الحافظ «عبد الرزاق الصنعاني»(ت 211 هـ ق)( ) في كتابه القيّم «المصنَّف» الذي يُعَدُّ أحد أقدم كتب الحديث في الإسلام، كما أن مؤلِّفَه كان معاصراً للأئمة - عليهم السلام - من زمن الإمام الصادق وحتى الإمام الجواد، وكان - طبقاً لتصريح علماء الرجال - شيعيّ المذهب، الرواية التالية: «عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: من زار القبور فليس منّا» ( ).

2 - وروى «الحاكم النيسابوري»( ) بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص( )قال: «قَبَرْنَا( ) مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ رجلاً، فلمَّا رجعنا وحاذينا بابه إذا هو بامرأة لا نظنه عرفها، فقال: «يا فاطمةُ من أين جِئْتِ؟» قالت: جئتُ من أهل الميِّت رحمتُ إليهم مَيِّتَهم وعزَّيْتُهُم. قال: «فلعلَّك بلغتَ معهم الكدي( )؟» قالت: معاذ الله أن أبلغ معهم الكديَ، وقد سمعتُكَ تذكر فيه ما تذكر!، قال: «لو بلغتِ معهم الكدي ما رأيتِ الجنَّةَ حتى يرى جدُّ أبيكِ» «والكدي: المقابر»( ). ومعنى الجملة الأخيرة إنه من المستحيل عليكِ إن فعلتِ ذلك أن تدخلي الجنَّةَ!. فهذا الحديث الشريف يُبَيِّن إلى أي حدٍ كانت زيارة القبور في ابتداء أمر الإسلام مكروهةً في نظر الشارع.

3 - وهناك عدة روايات وأحاديث مأثورة أخرى عن رسول الله في نهيه صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن زيارة القبور في ابتداء بعثته... مثل الحديث القائل: «إني نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها»، فأمر بزيارتها لأجل الاعتبار وتذكر الموت، وقد روت كتب العامة والخاصة، وروى الزيدية أيضاً في مسند الإمام زيد بن علي عليه السلام، كلهم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: «نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن زيارة القبور» ( ). 

4 - كما جاء من طرق العامة والخاصة أنه (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) قال: «لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ»( ).

5 - كما روى جميع المسلمين أن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ) قال مراراً: «لا تتخذوا قبري عيداً»( ) وسنشرح هذا الحديث بتفصيل أكثر لاحقاً إن شاء الله.

6 - ومن الأحاديث الشديدة التي يرتجف لها الإنسان والتي جاء فيها النهيُ الشديدُ والكراهةُ العظيمةُ لهذا العمل، ما رواه عطاء بن يسارعن النبي الأكرم أنه تضرّع إلى رب العزّة والجلال قائلاً: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً» ثم قال: «لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»( ). 

7 - ويدل عليه مضمون الحديث الذي رُوِيَ عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يَقُمْ مِنْهُ: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُورَ أنبيائِهِم مَسَاجِدَ. (قالت عائشة): ولولا ذلك لأبرز قبره إلا أنه خشي أن يُتَّخَذَ مَسْجِداً»( ).

8 - مما يدل على ذلك أيضاً عدم اهتمام رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه الأخيار بقبور الأنبياء والأولياء التي كانت موجودة في ذلك الزمن - سواءً كانت قبوراً واقعية أم موهومة - مثل قبر سيدنا إسماعيل وهاجر في مكة، وقبر سيدنا إبراهيم الخليل وسيدنا يوسف عليهما السلام في أرض فلسطين من بلاد الشام، وقبر سيدنا هود عليه السلام في اليمن، فلم يُرْوَ عنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ زار أياً من تلك القبور. 

كما إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقد أعزةً عليه في الدنيا, وكان من الممكن أن يجعل قبرهم مزاراً فلم يفعل، كقبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام وقبور شهداء بدر وأحد، وقبور الصحابة الكبار أمثال عثمان بن مظعون وغيرهم، والتي لم يُرْوَ أن أياً منها كان قبراً مبجلاً ومزاراً يتردد الناس إليه؟ وحتى قبور أبناء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ نفسه لم تتحول أبداً إلى مزارات يُطاف حولها، كما كان حال قبر إبراهيم ابن رسول الله في المدينة الذي لم يتحول إلى مزار، طبقاً لما رواه الشيخ الصدوق - عليه الرحمة - في كتابه «من لا يحضره الفقيه»، والكليني في «الكافي» حيث قالا: «وَ فِي رِوَايَةِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: كَانَ عَلَى قَبْرِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَذْقٌ يُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ حَيْثُمَا دَارَتْ فَلَمَّا يَبِسَ الْعَذْقُ ذَهَبَ أَثَرُ الْقَبْرِ فَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ!»( ). 

فلو كان هناك استحباب لزيارة القبرٍ والطواف حوله لكان أولى الناس بذلك قبر ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ، لا أن نرى ذلك مندرساً لا يُعْرَف له أيُّ أثرٍ في زمن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) ذاته؟ وكذلك لم يكن قبر عمّ النبي حمزة سيد الشهداء عليه السلام مزاراً يُزَارُ( ).

وقد روت جميع التواريخ وكتب السير والطبقات بما في ذلك سيرة ابن هشام و«مغازي الواقدي» و«تفسير عليٍّ بن إبراهيم القميّ»، والمجلد السادس من «بحار الأنوار» للمجلسيّ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ لمّا رأى جسد حمزة عليه السلام في سفح جبل أُحد عرياناً ومُـمَثَّلاً به قال: «لَوْلَا أَنْ يُحْزِنَ ذَلِكَ نِسَاءَنَا، لَتَرَكْنَاهُ لِلْعَافِيَةِ - يَعْنِي السّبَاعَ وَالطّيْرَ - حَتّى يُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ بُطُونِ السّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطّيْرِ.»( ).

بديهيٌّ أنه لو كان عمل الزيارة مطلوباً ومستحبّاً إلى تلك الدرجة التي يدّعيها القائلون بذلك، لما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ يرضى أبداً بترك جثمان عمه سيد الشهداء دون أن يجعل له قبراً يُزار.

9 - وردت أخبارٌ عديدة تنهى عن البناء على القبور أو تعميرها وتجصيصها، ومن الواضح تماماً أنه لم يَرِد في تلك الأخبار أي تمييزٍ بين قبور الأنبياء والأولياء وقبور عامة الناس، كما جاء في مستدرك الوسائل ( ) عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: «أول عدل الآخرة، القبور لا يُعرف شريفٌ من وضيع». وقد جاءت مئات الأحاديث في هذا الباب في كتب المسلمين ولا يخفى أن النهي عن تعمير القبور إنما هو لأجل ألا تتحول إلى مزارات. 

10 - ويؤكد حقيقة هذا المعنى - أي أن تعظيم القبور أمر مكروه نهى عنه الإسلام بشدة - تلك الأوامر التي أمر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ علياً عليه السلام وأمر بها عليٌ أبا الهياج الأسدي فقال - كما روى ذلك الكُلَيْنِيُّ في «الكافي» والبَرقيُّ في «المحاسن» «عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - إلى المدينة فقال: لا تَدَعْ صُوْرَةً إلّا مَحَوْتَهَا ولا قَبْرَاً إلا سَوَّيْتَه...» وفي روايةٍ أخرى لهما أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام أن علياً عليه السلام قال: «أرسلني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - في هَدْمِ القبور وَكَسْرِ الصُّوَر»( ).

وكذلك كل ما ورد في باب النهي عن تعمير وتجديد القبور، يدلُّ بوضوح تام على تلك الحقيقة، وذلك مثل ما جاء في كتاب «من لا يحضره الفقيه» للصدوق، وكتاب «المحاسن» للبرقيّ والمجلد 18 من بحار الأنوار للمجلسيّ أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «مَنْ جَدَّدَ قبراً أو مَثَّلَ مثالاً، فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الإسْلامِ»( ). 

ومن الواضح أنه لو كانت زيارات القبور والطواف بها وطلب الحوائج من أصحابها والتشفع بالأموات أمراً مطلوباً للشارع ومحبوباً في نظره لما أرسل نبيُّ الله وعليٌّ المرتضى - سلام الله عليهما - أشخاصاً بمهمة محدَّدة هي تخريب وهدم كل قبر مشرفٍ دون استثناء ولما اعتبر القبور العامرة أمراً مرادفاً لعبادة الأوثان إلى حد قوله كما مرَّ «مَنْ جَدَّدَ قبراً أو مَثَّلَ مثالاً، فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الإسْلامِ»، كما ندرك هذه الحقيقة جيداً في زماننا هذا ونلمسه لمس الواقع.

إن هناك أحاديث وقرائن كثيرة أخرى تؤكد ما قلناه ونكتفي بالنماذج العشرة التي أوردناها. تلك عشرة كاملة.